الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة **
وهي سنة إحدى وستين وثلاثمائة. فيها عملت الرافضة مأتم الحسين بن علي رضي الله عنهما ببغداد على العادة في يوم عاشوراء. وفيها عاد الهجري كبير القرامطة من الموصل إلى الشام وانصرفت المغاربة أعني عسكر وفيها وقع الصلح بين منصور بن نوح الساماني صاحب خراسان وبين ركن الدولة الحسن بن بويه وبين ولده عضد الدولة بن ركن الدولة المذكور بأن يحمل ركن الدولة إلى منصور بن نوح الساماني في كل سنة مائة ألف دينار ويحمل ابنه عضد الدولة خمسين ألف دينار. وفيها اعترض بنو هلال الحاج البصري والخراساني ونهبوهم وقتلوا منهم خلقًا ولم يسلم منهم إلا من مضى مع الشريف أبي أحمد الموسوي أمير الحاج فإنه مضى بهم على طريق المدينة فحج وعاد. وفيها توفي سعيد بن أبي سعيد أبو القاسم الجنابي القرمطي الهجري عليه وعلى أقاربه اللعنة والخزي. ولم يبق من أولاد أبي سعيد غيره وغير أخيه يوسف وقام بأمر القرامطة بعده مكانه أخوه يوسف المذكور. وعقد القرامطة بعد يوسف لستة نفر من أولادهم على وجه الشركة بينهم لا يستبد أحد منهم بشيء دون الآخر. قلت: وهذا يدل على قطع أثرهم واضمحلال أمرهم وزوال ملكهم إلى جهنم وبئس المصير فإنهم كانوا أشر خلق الله وأقبحهم سيرة وأظلمهم سطوة هذا مع الفسق وقلة الدين وسفك الدماء وانتهاك المحارم وقتل الأشراف وأخذ الحجاج ونهبهم والاستخفاف بأمر الشرع والسنة وهتك حرمة البيت العتيق واقتلاع الحجر الأسود منه حسب ما تقدم ذكر ذلك كله في حوادث السنين السابقة. وقد طال أمرهم وقاسى المسلمون منهم شدائد وخرب في أيامهم ممالك وبلاد. ألا لعنة الله على الظالمين. وفيها توفي علي بن إسحاق بن خلف أبو القاسم الزاهي الشاعر البغدادي كان وصافًا محسنًا كثير الملح حسن الشعر في التشبيهات وكان قطانًا وكانت دكانه في قطيعة الربيع الحاجب. ومن شعره وأجاد إلى الغاية من قصيدة: وبيض بألحاظ العيون كأنما هززن سيوفًا واستللن خناجرا تصدين لي يومًا بمنعرج اللوى فغادرن قلبي بالتصبر غادرا سفرن بدورًا وانتقبن أهلة وملن غصونًا والتفتن جآذرا وأطلعن في الأجياد بالدر أنجمًا جعلن لحبات القلوب ضرائرا هذا مثل قول المتنبي ومذهب الزاهي زها عليه. وقول المتنبي: بدت قمرًا ومالت خوط بانٍ وفاحت عنبرًا ورنت غزالا وذكر الثعالبي لبعض شعراء عصره على هذا الأسلوب في وصف مغن: فديتك يا أتم الناس ظرفًا وأصلحهم لمتخذ حبيبا فوجهك نزهة الأبصار حسنًا وصوتك متعة الأسماع طيبا رنا ظبيًا وغنى عندليبًا ولاح شقائقًا ومشى قضيبا ومات الزاهي ببغداد. ومن شعره أيضًا قوله: قم فهنىء عاشقين أصبحا مصطلحين جمعا بعد فراق فجعا منه ببين ثم عادا في سرور من صدود آمنين فهما روح ولكن ركبا في بدنين الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة قال: وفيها توفي الحسن بن الخضر الأسيوطي وخلف بن محمد بن إسماعيل ببخارى وعثمان بن عمر بن خفيف الدراج ومحمد بن الحارث بن أسد القيرواني أبو عبد الله الفقيه الحافظ. أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم أربع أذرع وعشرون إصبعًا. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعًا وأربع عشرة إصبعًا. السنة الرابعة من ولاية جوهر القائد وهي سنة اثنتين وستين وثلاثمائة: فيها لم تعمل الرافضة المأتم ببغداد بسبب ما جرى على المسلمين من الروم وكان عز الدولة بختيار بن بويه بواسط والحاجب سبكتكين ببغداد وكان سبكتكين المذكور يميل إلى السنة فمنعهم من ذلك. وفيها حشدت الروم وأخذوا نصيبين واستباحوا وقتلوا وسبوا وقدم بغداد من نجا منهم واستنفروا الناس في الجوامع وكسروا المنابر ومنعوا الخطيب وحاولوا الهجوم على الخليفة المطيع لله واقتلعوا بعض شبابيك دار الخلافة حتى غلقت أبوابها ورماهم الغلمان بالنشاب من الرواشن وخاطبوا الخليفة بالتعنيف وبأنه عاجز عما أوجبه الله عليه من حماية حوزة الإسلام وأفحشوا القول. ووافق ذلك غيبة السلطان عز الدولة بختيار بن معز الدولة أحمد بن بويه في الكوفة فخرج إليه أهل العقل والدين من بغداد وفيهم الإمام أبو بكر الرازي الفقيه وأبو الحسن علي بن عيسى النحوي وأبو القاسم الداركي وابن الدقاق الفقيه وشكوا إليه ما دهم الإسلام من هذه الحادثة العظمى فوعدهم عز الدولة بالغزو ونادى بالنفير في الناس فخرج من العوام خلق مثل عدد الرمل ثم جهز جيشًا وغزوا فهزموا الروم وقتلوا منهم مقتلة عظيمة وأسروا أميرهم وجماعة من بطارقته وأنفذت رؤوس القتلى إلى بغداد وفرح المسلمون بنصر الله تعالى. وفيها في شهر رمضان دخل المعز لدين الله أبو تميم معد العبيدي إلى مصر بعد أن بنيت له القاهرة ومعه توابيت آبائه وكان قد مهد له ملك الديار المصرية مولاه جوهر القائد وبنى له القاهرة وأقام له بها دار الإمارة والقصر. وفيها وزر ببغداد أبو طاهر بن بقية ولقب بالناصح وكان سمحًا كريمًا له راتب كل يوم من الثلج ألف رطل وراتبه من الشمع في كل شهر ألف من وكان أبو طاهر من صغار الكتاب يكتب على المطبخ لمعز الدولة فآل الأمر إلى الوزارة. فقال الناس: من الغضارة إلى الوزارة! وكان كريمًا فغطى كرمه عيوبه. وفيها زلزلت بلاد الشام وهدمت الحصون ووقع من أبراج أنطاكية عدة ومات تحت الردم خلق كثير. وفيها حج بالناس النقيب أبو أحمد الموسوي. وفيها ضاق الأمر على عز الدولة بختيار بن بويه فبعث إلى الخليفة وطلب إسعافه على قتال الروم فباع الخليفة المطيع ثيابه وأنقاض داره من ساج ورصاص وجمع من ذلك أربعمائة ألف درهم وبعث بها إليه. وفيها توفي السري بن أحمد بن السري أبو الحسن الكندي الرفاء الشاعر المشهور كان في صباه يرفو ويطرز في دكان بالموصل ومع ذلك يتولع بالأدب وينظم الشعر ولم يزل على ذلك حتى جاد شعره ومهر فيه وقصد سيف الدولة ابن حمدان بحلب ومدحه وأقام عنده مدة ثم بعد وفاته قدم بغداد ومدح الوزير المهلبي وغيره. وكان بينه وبين أبي بكر محمد وأبي عثمان سعيد ابني هاشم الخالديين الموصليين الشاعرين المشهورين معاداة فادعى عليهما سرقة شعره وشعر غيره. وكان شاعرًا مطبوعًا عذب الألفاظ كثير الافتنان في التشبيهات والأوصاف وكان لا يحسن من العلوم شيئًا غير قول الشعر. ومن شعره أبيات يذكر فيها صناعته: وكانت الإبرة فيما مضى صائنة وجهي وأشعاري فأصبح الرزق بها ضيقا كأنه من ثقبها جاري ومن محاسن شعره في المديح: يلقى الندى برقيق وجه مسفر فإذا التقى الجمعان عاد صفيقا رحب المنازل ما أقام فإن سرى في جحفل ترك الفضاء مضيقا ومن غرر شعره في النسيب قوله وهو في غاية الحسن: بنفسي من أجود له بنفسي ويبخل بالتحية والسلام وحتفي كامن في مقلتيه كمون الموت في حد الحسام وفيها توفي محمد بن هانىء أبو القاسم وقيل: أبو الحسن الأزدي الأندلسي الشاعر المشهور قيل: إنه من ولد يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة وقيل: بل هو من ولد أخيه روح بن حاتم. وكان أبوه هانىء من قرية من قرى المهدية بإفريقية. وكان شاعرًا أديبًا كان ماهرًا في الأدب حافظًا لأشعار العرب وأخبارهم واتصل بصاحب إشبيلية وحظي عنده وكان كثير الانهماك في اللذات متهمًا بمذهب الفلاسفة ولما اشتهر عنه ذلك نقم عليه أهل إشبيلية واتهم الملك بمذهبه فأشار عليه الملك بالغيبة عن البلد مدة ينسى فيها خبره فانفصل وعمره يومئذ سبع وعشرون سنة. وقصته طويلة إلى أن قتل ببرقة في عوده إلى المغرب من مصر بعد أن مدح المعز العبيدي بغرر المدائح. وكان عوده إلى المغرب لأخذ عياله وعوده بهم إلى مصر. وتأسف المعز عليه كثيرًا. ومن شعره قصيدته النونية في مدح المعز لدين الله المذكور منها: بيض وما ضحك الصباح وإنها بالمسك من طرر الحسان لجون أدمى لها المرجان صفحة خده وبكى عليها اللؤلؤ المكنون وكان ابن هانىء هذا في المغرب مثل المتنبي في المشرق وكان موته في شهر رجب. وهو صاحب القصيدة المشهورة التي أولها: فتقت لكم ريح الشمال عبيرا وفيها توفي الوزير عباس بن الحسين أبو الفضل الشيرازي كان جبارًا ظالمًا قتل بالكوفة بسقي الذراريح ودفن بمشهد علي عليه السلام. ومما يحكى عن ظلمه أنه قتل ببغداد رجل من أعوان الوالي فبعث أبو الفضل الشيرازي هذا من طرح النار من النحاسين إلى السماكين فاحترق ببغداد حريق عظيم لم يعهد مثله وأحرقت أموال عظيمة وجماعة كثيرة من النساء والرجال والصبيان والأطفال فأحصي ما أحرق ببغداد فكان سبعة عشر ألف إنسان وثلاثمائة دكان وثلاثمائة وعشرين دارًا أجرة ذلك في الشهر ثلاثة وأربعون ألف دينار. فلما وقع ذلك قال له رجل: أيها الوزير أريتنا قدرتك ونحن نأمل من الله أن يرينا قدرته فيك! فبعد قليل قبض عليه عز الدولة وصادره وعاقبه ثم سقي ذراريح فتقرحت مثانته وهلك في ذي الحجة. الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة قال: وفيها توفي أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن يحيى المزكي وأبو العباس إسماعيل بن عبد الله بن محمد بن ميكال وأبو بحر محمد بن الحسن بن كوثر البربهاري وأبو جعفر محمد بن عبد الله البلخي شيخ الحنفية ببخارى في ذي الحجة كان إمام عصره بلا مدافعة وأبو عمر محمد بن موسى بن فضالة وأبو الحسن محمد بن هانىء شاعر الأندلس. أمر النيل في هذه السنة: ولاية المعز العبيدي هو أبو تميم معد بن المنصور إسماعيل بن القائم بأمر الله محمد بن المهدي عبيد الله العبيدي الفاطمي المغربي الملقب بالمعز لدين الله والذي تنسب إليه القاهرة المعزية. مولده بالمهدية في يوم الاثنين حادي عشر شهر رمضان سنة تسع عشرة وثلاثمائة وبويع بالخلافة في الغرب يوم الجمعة التاسع والعشرين من شوال سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة بعد موت أبيه. يأتي ذكر نسبه وأقوال الناس فيه بعد أن نذكر قدومه إلى القاهرة وما وقع له مع أهلها ثم مع القرمطي. وقال ابن خلكان: وكان المعز قد بويع بولاية العهد في حياة أبيه المنصور إسماعيل ثم جددت له البيعة بعد وفاته في يوم الأحد سابع ذي الحجة سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة. قلت: هو أول خليفة كان بمصر من بني عبيد. قال الحافظ أبو عبد الله الذهبي في تاريخ الإسلام: وهو أول من تملك ديار مصر من بني عبيد الرافضة المدعين أنهم علويون. وكان ولي عهد أبيه إسماعيل فاستقل بالأمر في آخر سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة وسار في نواحي إفريقية ليمهد مملكته فأذل العصاة واستعمل على المدن غلمانه واستخدم الجند. ثم جهز مولاه جوهرًا القائد في جيش كثيف فسار فافتتح سجلماسة وسار حتى وصل إلى البحر المحيط وصيد له من سمكه وافتتح مدينة فاس وأرسل بصاحبها وصاحب سبتة أسيرين إلى المعز ووطأ له جوهر من إفريقية إلى البحر سوى مدينة سبتة فإنها بقيت لبني أمية أصحاب الأندلس. وقال الشيخ شمس الدين أبو المظفر في تاريخه مرآة الزمان: وكان مغرىً بالنجوم يعني المعز والنظر فيما يقتضيه الطالع فنظر في مولده وطالعه فحكم له بقطع فيه فاستشار منجمه فيما يزيله عنه فأشار عليه أن يعمل سردابًا تحت الأرض ويتوارى فيه إلى حين جواز الوقت فعمل على ذلك وأحضر قواده وكتابه وقال لهم: إن بيني وبين الله عهدًا في وعد وعدنيه وقد قرب أوانه وقد جعلت نزارًا ولدي ولي عهدي بعدي ولقبته العزيز بالله واستخلفته عليكم وعلى تدبير أموركم مدة غيبتي فالزموا الطاعة له واتركوا المخالفة واسلكوا الطريق السديدة فقالوا: الأمر أمرك ونحن عبيدك وخدمك ووصى العزيز ولده بما أراد وجعل القائد جوهرًا مدبره والقائم بأمره بين يديه ثم نزل إلى سرداب اتخذه وأقام فيه سنة وكانت المغاربة إذا رأوا غمامًا سائرًا ترجل الفارس منهم إلى الأرض وأومأ بالسلام يشير إلى أن المعز فيه ثم خرج المعز بعد ذلك وجلس للناس فدخلوا عليه على طبقاتهم ودعوا له فأقام على ما كان عليه. انتهى. وقيل: إنه دخل مصر ومعه خمسمائة جمل موسوقة ذهبًا عينًا وأشياء كثيرة غير ذلك. وقال القفطي: إن المعز كان قد عزم على تجهيز عسكر إلى مصر فسألته أمه تأخير ذلك لتحج خفية فأجابها وحجت. فلما وصلت إلى مصر أحس بها كافور الإخشيذي الأستاذ فحضر إليها وخدمها وحمل إليها هدايا وبعث في خدمتها أجنادًا فلما رجعت من حجها منعت ولدها من غزو بلاده. فلما توفي كافور بعث المعز جيوشه فأخذوا مصر. انتهى. ولما أرسل المعز القائد جوهرًا إلى مصر وفتحها وبلغه ذلك سار بنفسه إلى المهدية في الشتاء فأخرج من قصور آبائه من الأموال خمسمائة حمل ثم سار نحو الديار المصرية بعد أن مهد له جوهر القائد وبنى له القاهرة. وكان صادف مجيء جوهر إلى مصر الغلاء والوباء فلم يلتفت إلى ذلك وافتتحها ثم افتتح الحجاز والشام وأرسل يعرف المعز. وقد ذكرنا شيئًا من ذلك في ترجمة جوهر القائد. وخرج المعز من المغرب في سنة إحدى وستين وثلاثمائة بعد أن استخلف على إفريقية بلكين بن زيري الصنهاجي وجد المعز في السير في خزائنه وجيوشه حتى دخل الإسكندرية في شعبان سنة اثنتين وستين وثلاثمائة فتلقاه قاضي مصر أبو طاهر الذهلي والأعيان وطال حديثهم معه وأعلمهم بأن قصده القصد المبارك من إقامة الجهاد والحق وأن يختم عمره بالأعمال الصالحة وأن يعمل بما أمره به جده رسول الله صلى الله عليه وسلم ووعظهم وطول حتى أبكى بعضهم وخلع على جماعة. ثم نزل بالجيزة وأخذ جيشه في التعدية إلى مصر ثم ركب هو ودخل القاهرة وقد بنيت له بها دور الإمارة ولم يدخل مدينة مصر وكانوا قد احتفلوا وزينوا مصر بأحسن زينة. فلما دخل القصر خر ساجدًا وصلى ركعتين. وقال عبد الجبار البصري: وكان السبب في مجيئه إلى مصر أن الروم كانوا قد استولوا على الشام والثغور وطرسوس وأنطاكية وأذنة وعين زربة والمصيصة وغيرها وفرح بمصاب المسلمين وبلغه أن بني بويه قد غلبوا على بني العباس وأنهم لا حكم لهم معهم فاشتد طمعه في البلاد وكان له بمصر شيعة فكاتبوه يقولون: إذا زال الحجر الأسود ملك مولانا المعز الدنيا كلها ويعنون بالحجر الأسود الأستاذ كافورًا الإخشيذي الخصي وكان كافور يومئذ أمير مصر نيابة عن ابن الإخشيد وعن الحسن بن عبيد الله بن طغج أمير الشام وكان الحسن قد دخل مع الشيعة في الدعوة وكان الحسن ضعيفًا رخوًا ولذلك كان كافور هو المتكلم عنه لأن الجند كانوا قد طمعوا فيه أعني الحسن وكرهوه وكرههم فقال له أبو جعفر بن نصر وكان من دعاة المعز بالقاهرة: هؤلاء القوم قد طمعوا فيك والمعز لك مثل الوالد فإن شئت كاتبته ليشد منك ويكون من وراء ظهرك فقال الحسن: إي والله قد أحرقوا قلبي!. فكتب إلى المعز يخبره فبعث المعز القائد جوهرًا وهو عبد رومي غير خصي فجاء جوهر إلى مصر في مائة ألف مقاتل فدخل مصر في سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة حسب ما ذكرناه وأخرج الحسن المذكور بعد أن قاتله واستولى جوهر على الخزائن والأموال والذخائر. وتوجه الحسن إلى الرملة ثم ظفر به جوهر وبعث به إلى المعز إلى الغرب فلما دخل عليه الحسن قربه المعز وبش به وقال: أنت ولدي وكاتبتني على دخول مصر وإنما بعثت جوهرًا لينصرك ولقد لحقني بتجهيز الجيوش إلى مصر أربعة آلاف ألف وخمسمائة ألف دينار. فظن الحسن أن الأمر كما قال المعز ولم يدر أنه خدعه فسعى إليه بجماعة من قواد مصر والأمراء وأرباب الأموال وعرفه حال المصريين وكان كل واحد من هؤلاء الذين دل الحسن المعز عليهم مثل قارون في الغنى فكتب المعز إلى جوهر باستئصالهم ومصادرتهم أو أن يبعث بهم إليه ثم حبسهم مع الحسن فكان ذلك آخر العهد بهم. فقال الذهبي: هذا قول منكر! بل أخرج الحسن بن عبيد الله من مصر وبايع للمعز ثم قدم بعد ذلك ووقعت الوحشة بينهم. ولما دخل المعز إلى القاهرة احتجب في القصر فبعث عيونه ينقلون إليه أخبار الناس وهو متوفر في النعم والأغذية المسمنة والأطلية التي تنقي البشرة وتحسن اللون. ثم ظهر للناس بعد مدة وقد لبس الحرير الأخضر وجعل على وجهه اليواقيت والجواهر تلمع كالكواكب. وزعم أنه كان غائبًا في السماء وأن الله رفعه إليه فامتلأت قلوب العامة والجهال منه رعبًا وخوفًا وقطع ما كان على ابن الإخشيذ في كل سنة من الأتاوة للقرامطة وهي ثلاثمائة ألف دينار. ولما بلغ القرمطي ذلك عظم عليه لأن المعز كان يصافيه لما كان بالمغرب ويهاديه فلما وصل إلى مصر قطع ذلك عنه. وسار القرمطي واسمه الحسن بن أحمد بن أبي سعيد الحسن بن بهرام القرمطي إلى بغداد وسأل الخليفة المطيع بالله العباسي على لسان عز الدولة بختيار أن يمده بمال ورجال ويوليه الشام ومصر ليخرج المعز منها فامتنع الخليفة المطيع بالله من ذلك وقال: كلهم قرامطة وعلى دين واحد فأما المصريون يعني بني عبيد فأماتوا السنن وقتلوا العلماء وأما هؤلاء يعني القرامطة فقتلوا الحاج وقلعوا الحجر الأسود وفعلوا ما فعلوا. فقال عز الدولة بختيار للقرمطي: اذهب فافعل ما بدا لك. وقيل: إن بختيار أعطاه مالًا وسلاحًا. فسار القرمطي إلى الشام ومعه أعلام سود وأظهر أن الخليفة المطيع ولاه وكتب على الأعلام اسم المطيع عبد الكريم وتحته مكتوب السادة الراجعون إلى الحق وملك القرمطي الشام ولعن المعز هذا على منبر دمشق وأباه وقال: هؤلاء من ولد القداح كذابون ممخرقون أعداء الإسلام ونحن أعلم بهم ومن عندنا خرج جدهم القداح. ثم أقام القرمطي الدعوة لبني العباس وسار إلى مصر بعساكره. ولما بلغ المعز مجيئه تهيأ لقتالهم فنزل القرمطي بمشتول الطواحين وحصل بينه وبين المعز مناوشات ثم تقهقر المعز ودخل القاهرة وانحصر بها إلى أن أرضى القرمطي بمال وخدعه وانخدع القرمطي وعاد إلى نحو الشام فمات بالرملة في شهر رجب وأراح الله المسلمين منه. وصفا الوقت للمعز فإن القرمطي كان أشد عليه من جميع الناس للرعب الذي سكن في قلوب الناس منه فكانت القرامطة إذا كانوا في ألف حطموا مائة ألف وانتصفوا. خذلان من الله تعالى لأمر يريده. ما قيل في نسب المعز وآبائه قال القاضي عبد الجبار البصري: اسم جد الخلفاء المصريين سعيد ويلقب بالمهدي وكان أبوه يهوديًا حدادًا بسلمية ثم زعم سعيد هذا أنه ابن الحسين بن أحمد بن عبد الله بن ميمون القداح. وأهل الدعوة أبو القاسم الأبيض العلوي وغيره يزعمون أن سعيدًا إنما هو من امرأة الحسين المذكور وأن الحسين رباه وعلمه أسرار الدعوة وزوجته بنت أبي الشلغلغ فجاءه ابن فسماه عبد الرحمن. فلما دخل الغرب وأخذ سجلماسة تسمى بعبيد الله ثم تكنى بأبي محمد وسمى ابنه الحسن وزعمت المغاربة أنه يتيم ربه وليس بابنه ولا بابن زوجته وكناه أبا القاسم وجعله ولي عهده. انتهى. وقال القاضي أبو بكر بن الباقلاني: القداح جد عبيد الله كان مجوسيًا ودخل عبيد الله المغرب وادعى أنه علوي ولم يعرفه أحد من علماء النسب وكان باطنيًا خبيثًا حريصًا على إزالة ملة الإسلام أعدم الفقه والعلم ليتمكن من إغراء الخلق وجاء أولاده أسلوبه وأباحوا الخمر والفروج وأشاعوا الرفض وبثوا دعاة فأفسدوا عقائد جبال الشام كالنصيرية والدروزية. وكان القداح كاذبًا مخرقًا وهو أصل دعاة القرامطة. انتهى. وقال ابن خلكان: اختلف في نسبهم فقال صاحب تاريخ القيروان: هو عبيد الله بن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم. انتهى. وقال غيره: هو عبيد الله بن محمد بن إسماعيل بن جعفر المذكور في قول صاحب تاريخ القيروان. وقيل: هو علي بن الحسين بن أحمد بن عبد الله بن الحسن بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم. وقيل: هو عبيد الله بن التقي بن الوفي بن الرضي وهؤلاء الثلاثة يقال لهم المستورون في ذات الله. والرضي المذكور هو ابن محمد بن إسماعيل بن جعفر. واسم التقي الحسين. واسم الوفي أحمد. واسم الرضي عبد الله. وإنما استتروا خوفًا على أنفسهم لأنهم كانوا مطلوبين من جهة الخلفاء من بني العباس لأنهم علموا أن فيهم من يروم الخلافة أسوة غيرهم من العلويين وقضاياهم ووقائعهم في ذلك مشهورة. وإنما تسمى المهدي عبيد الله استتارًا. هذا عند من يصحح نسبه ففيه اختلاف كثير. وأهل العلم بالأنساب من المحققين ينكرون دعواه في النسب. وقيل: هو عبيد الله بن الحسين بن علي بن محمد بن علي الرضي بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق. وقيل: هو علي بن الحسين بن أحمد بن عبد الله بن الحسين بن محمد بن زين العابدين بن محمد بن الحسين وإنما سمى نفسه عبيد الله استتارًا. وهذا أيضًا على قول من يصحح نسبهم. والذي ينكر نسبه يقول: اسمه سعيد ولقبه عبيد الله وزوج أمه الحسين بن أحمد القداح كان كحالًا يقدح العين إذا نزل فيها ماء. وقال ابن خلكان: وجاء المعز من إفريقية وكان يطعن في نسبه. فلما قرب من البلد يعني مصر وخرج الناس للقائه اجتمع به جماعة من الأشراف فقال له من بينهم الشريف عبد الله بن طباطبا: إلى من ينتسب مولانا فقال له المعز: سنعقد مجلسًا ونسرد عليكم نسبنا. فلما استقر المعز بالقصر جمع الناس في مجلس عام وجلس لهم وقال: هل بقي من رؤسائكم أحد فقالوا: لم يبق معتبر فسل عند ذلك نصف سيفه وقال: هذا نسبي! ونثر عليهم ذهبًا كثيرًا وقال: هذا حسبي! فقالوا جميعًا: سمعنا وأطعنا. قلت: وفي نسب المعز أقوال كثيرة أخر أضربت عن ذكرها خوف الإطالة. والظاهر أنه ليس بشريف وأنه مدع. والله أعلم. واستمر بالقاهرة إلى أن مرض بها وتوفي يوم الجمعة السابع عشر من شهر ربيع الأول سنة خمس وستين وثلاثمائة وله ست وأربعون سنة وقام ولده العزيز نزار بعده بالأمر. وأقام المعز واليًا ثلاثًا وعشرين سنة وخمسة أشهر وسبعة وعشرين يومًا منها بمصر ثلاث سنين وباقي ولايته كانت بالمغرب وخلف عشرة أولاد: نزارًا الذي ولي مصر بعده وعبد الله وعقيلًا وسبع بنات. وأقام بتدبير مملكة ولده العزيز جوهرًا القائد باني القاهرة وصاحب جامع الأزهر المقدم ذكره. قال ابن خلكان: إنه توفي يوم الجمعة الحادي عشر من شهر ربيع الآخر. وقيل: الثالث عشر و قيل لسبع خلون منه. فخالف ما قلنا في اليوم والشهر إلا أنه وافق في السنة. قال: ومعد بفتح الميم والعين المهملة وتشديد الدال المهملة. انتهى. قلت: وكان المعز عاقلًا حازمًا أديبًا جوادًا ممدحًا فيه عدل وإنصاف للرعية فمن عدله ما حكي عنه أن زوجة الإخشيذ الذي كان ملك مصر لما زالت دلتهم أودعت عند يهودي بغلطاقًا كله جوهر ثم فيما بعد طالبته فأنكر فقالت: خذ كم البغلطاق وأعطني ما فضل فأبى فلم تزل به حتى قالت: هات الكم وخذ الجميع فلم يفعل وكان في البغلطاق بضع عشرة درة فأتت المرأة إلى قصر المعز فأذن لها فأخبرته بأمرها فأحضره وقرره فلم يقر فبعث إلى داره من خرب حيطانها فظهرت جرة فيها البغلطاق فلما رآه المعز تحير من حسنه ووجد اليهودي قد أخذ من صدره درتين فاعترف أنه باعهما بألف وستمائة دينار فسلمه المعز بكماله للمرأة. فاجتهدت أن يأخذه المعز هدية أو بثمن فلم يفعل فقالت: يا مولاي هذا كان يصلح لي وأنا صاحبة مصر وأما اليوم فلا فلم يقبله المعز وأخذته وانصرفت. وكان المعز قد أتقن فنونًا من العلم والأدب. ومن شعره قوله: لله ما صنعت بنا تلك المحاجر في المعاجر مضى وأقضى في النفو - - س من الخناجر في الحناجر ولقد تعبت ببينكم تعب المهاجر في الهواجر
|